(ترجمة الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى)
التعريف بالإمام الشاطبي وبمنظومته (حرز الأماني ووجه التهاني):
نسبه ومولده ونشأته:
نسبه: هو أبو القاسم بن فيرٌه بن خلف بن أحمد الشاطبي الأندلسي الرعيني.
الشاطبي: نسبة إلى
شاطبة مدينة كبيرة ، ذات قلعة حصينة ، بشرق الأندلس.
الرُّعَيْني: بضم الراء وفتح العين المهملة، وسكون الياء المثناة من تحتها، وبعدها نون ، قال القسطلاني (الرُّعَيْني: نسبة إلى ذِي رُعَيْن ، أحَدُ أَقْيَال اليمن) والقَيْل: هو الملِك مِن مُلُوك حِمْير.
مولده: ولد سنة خمسمائة وثمانية وثلاثين للهجرة في بلدة شاطبة شرقي
الأندلس.
نشأته: كان ضريراً ، وعنيت به أسرته فحفظ القرآن الكريم وتعلم طرفاً من
الحديث والفقه اتجه إلى حلقات العلم التي كانت تعقد في مساجد شاطبة ومالت نفسه إلى
علم القراءات فتلقاها على يد أبي عبد الله محمد بن أبي العاص النفري ، ثم شد رحاله
إلى بلنسية وكانت من حواضر العلم في الأندلس ، ولقد أريد له أن يلي الخطابة في
بلده فامتنع عن ذلك ، لأجل مبالغة الخطباء على المنابر في وصف الملوك.
رحلاته ومشايخه:
وتلا ببلده القراءات السبع على عبد الله بن أبي العاص النفري ثم رحل
إلى بلنسية فقرأ القراءات على أبي الحسن بن هذيل وعرض عليه كتاب (التيسير) وسمع
منه الكتاب ومن أبي الحسن النعمة ، وأبي عبد الله ابن سعادة ، وأبي محمد بن عاشر ،
وأبي عبد الله بن عبد الرحيم ، وعليم بن عبد العزيز ، ثم رحل للحج فسمع من أبي
طاهر السلفي بالإسكندرية وغيره.
ولما دخل مصر
أكرمه القاضي الفاضل وعرف مقداره وأنزله بمدرسته التي بناها بدرب الملوخيا داخل
القاهرة وجعله شيخها وعظمه تعظيماً كثيراً فجلس بها للإقراء.
فلما فتح الملك الناصر صلاح الدين يوسف بيت المقدس توجه فزار القدس
وصام به شهر رمضان سنة سبع وثمانين وخمس مئة (587)هـ ، ثم رجع إلى القاهرة فأقام
بالمدرسة الفاضلية يُقرئ حتى وفاته رحمه الله.
وكان الإمام
الشاطبي إماماً كبيراً ، أعجوبة في الذكاء كثير الفنون ، آية من آيات الله تعالى ،
آية في القراءات ، حافظاً للحديث بصيراً بالعربية إماماً في اللغة ، ورأساً في
الأدب ، مع الزهد والولاية والعبادة والانقطاع والكشف.
شافعي المذهب ، وكان ديَناً خاشعاً كثير الوقار لا يتكلم فيما لا يعنيه ، ولا يجلس للإقراء إلا على طهارة وفي هيئة حسنة وخضوع واستكانة ويمنع جلساءه من الخوض إلا في العلم والقرآن ، وكان يعتل العلة الشديدة ولا يشتكي ولا يتأوه ، وإذا سئل عن حاله قال: العافية لا يزيد عل ذلك ، وكان يتمثل كثيراً بهذه الأبيات ، وهي لغز في النعش وهي لغيره.
أتَـعــرفُ شيئـاً في السٌماءِ يطِــيرُ إذا سـارَ صـاح الناسُ حيثُ يسِيرُ
فتَلْقاهُ مركُــوباً وتَلْقــاه راكـــــــباً وكـــــلٌ أمــــيرٍ يعْتَـلــيه
أسِـــــيـرُ
يحُثٌ على التقوَى ويُكْرَهُ قرْبُـــــه وتنْفِــرُ منه النفسُ وْهو
نـــذيـــرُ
ولم يُسْتَـزَر عن رغبةٍ في زيـارَةٍ ولـكِنْ علـى رغم المَــزورِ يـزُورُ
وترجع شهرة الامام الشاطبي (رحمه الله) إلى منظومته (حرز الأماني ووجه
التهاني) في القراءات السبع ، ومتن الشاطبية ذلك النظم المدهش نجد الشاطبي لم
يكتفِ بالقراءات فحسب ، بل ضمن منظمته العديد من الفوائد النحوية واللغوية الإرشادات الوعظية والاقتباسات
الحديثية.
والشاطبية قصيدة لامية اختصرت كتاب
(التيسير في القراءات السبع) للإمام أبي عمرو الداني المتوفى سنة (444هـ / 1052م)
وقد لقيت إقبالاً منقطع النظير ، ولا تزال حتى هذا اليوم هي العمدة لمن يريد إتقان
القراءات السبع ، وظلت موضع اهتمام العلماء منذ أن نضمها الشاطبي رواية وأداءً ،
وذلك لإبداعها العجيب في استعمال الرمز وإدماجه في الكلام ، حيث استعمله عوضاً عن
أسماء القراء أو الرواة ، فقد يدل الحرف على قارئ واحد أو أكثر من واحد ، وهناك
رموز ومصطلحات في المنظومة البديعة ، لا يعرفها إلا من أتقن منهج الشاطبي وعرف
مصطلحه ، وقد ضمن في مقدمة المنظومة منهجه وطريقته.
ولم يحظَ كتاب في القراءات بالعناية التي حظيت
بها المنظومة ، حيث كثر شراحها ، وتعددت مختصراتها وقد حصر أحد الباحثين المغاربة أكثر من مائة عمل ما بين شرح للشاطبية
، وحاشية على الشرح.
وهي من أوائل
القصائد التي نظمت في علم القراءات إذا لم تكن أولها على الإطلاق وفضلاً عن أنها
حوت القراءات السبع المتواترة فهي تعتبر من عيون الشعر بما اشتملت عليه من عذوبة
الألفاظ ورصانة الأسلوب وجودة السبك وحسن الديباجة وجمال المطلع والمقطع وروعة
المعنى وسمو التوجيه وبديع الحكم وحسن الإرشاد.
فهي
بحق كما قال العلامة ابن الجزري
من وقف على قصيدته علم مقدار ما آتاه الله في ذلك خصوصاً اللامية التي عجز البلغاء من بعده عن معارضتها فإنه لا يعرف مقدارها إلا من نظم على منوالها أو قابل بينها وبين ما نظم على طريقـتها ولقد رزق هذا الكتاب من الشهرة والقبول ما لا أعلمه لكتاب غيره في هذا الفن بل أكاد أن أقول ولا في غير هذا الفن فإنني لا أحسب بلداً من بلاد الإسلام يخلو منه بل لا أظن أن بيت طالب علم يخلو من نسخة منه.
ولقد تنافس
الناس فيها ورغبوا في اقتناء النسخ الصحاح منها وبالغ الناس في المغالاة فيها حتى
خرج بعضهم بذلك عن حد أن يكون لغير معصوم.
ويقول
الإمام الذهبي في كتابه القراء الكبار
ولقد سارت الركبان بقصيدته حرز الأماني وعقيلة أتراب القصائد اللتين
في القراءات والرسم وحفظهما خلق لا يحصون وخضع لها فحول الشعراء وكبار البلغاء
وحذاق القراء فلقد أبدع وأوجز وسهل الصعب لذا تلقاها العلماء في سائر الأقطار
والأمصار بالقبول الحسن وعنوا بها أعظم عناية.
وفاتــه:
ظل الإمام الشاطبي في القاهرة يقيم حلقته في مدرسته ، ويلتف حوله تلاميذه النابهون من أمثال أبي الحسن علي بن محمد السخاوي ، وكان أنبغ تلاميذه ، وانتهت إليه رئاسة الإقراء بعد شيخه ، ولم تطل الحياة بالشاطبي حيث توفي وعمره اثنان وخمسون عاماً في (28 من جمادى الآخر 590هـ / 20 من يونيو 1194م) ، ودفن في تربة القاضي الفاضل بالقرب من سفح جبل المقطم بالقاهرة وقبره مشهور ومعروف هناك.
رحمه الله تعالى رحمة واسعة وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة،،،